في ربيع 2025، اهتزّ ضمير موريتانيا – إن بقي منه ما يهتز – على وقع حملات قمعية طالت أبناء اثنية الحاراطين، وهم شريحةٌ اجتماعية وُلدت من رحم العبودية، وتعيش اليوم في ظلالها الطويلة رغم النصوص القانونية التي تدّعي حظرها.
لم تكن الاعتقالات الأخيرة التي شملت نُشطاء بارزين – بينهم النائبة وردة أحمد – سوى مرآة لمأساة أعمق: مأساة وجودٍ هش، لا تعترف به الدولة إلا عند الحاجة إلى استعمال البطش ضد المكونات الاجتماعية المختلفة بحجة الحفاظ على الأمن.
احتجاج… يتحول إلى تهديد للوطن
ما بدأ كانتفاضة سلمية للمطالبة بتطبيق قانون تجريم العبودية ورفع التهميش البنيوي، قوبل بسلسلة ردود عنيفة وغير متكافئة من أجهزة الأمن. عربات مكافحة الشغب، واقتحامات ليليّة للمنازل، ومداهمات بلا أوامر قضائية، وصمت إعلامي مريب.
الحكومة بدورها، لم تُبدِ أي استعداد للحوار، بل أخرجت من جُعبتها الخطاب المعتاد: “وحدة وطنية مهددة”، و”فتنة عرقية يحرّكها الأعداء”.
لكن السؤال الذي يطرحه الشارع المسحوق هو: من يُهدد الوحدة؟ هل هو من يصرخ مطالبًا بالمساواة؟ أم من يُخيفه أن يرى عبد الأمس ندا له اليوم؟
بين القانون والواقع… مسافة عبودية
أقرت موريتانيا قانونًا لتجريم الرق عام 2007، ثم شددته عام 2015، لكن تطبيق هذه القوانين ظل انتقائيًا وهشًّا، ولا يلامس جوهر الأزمة. فلا يزال أبناء الحاراطين محرومين من تملك الأرض، والولوج المتكافئ إلى الوظائف، أو التمثيل السياسي الحقيقي. بل وحتى الاعتراف الرمزي بتاريخهم غائب من الكتب المدرسية والمناهج الوطنية.
الرق هنا لم يُهزم… بل تَحول إلى أشكال ناعمة من التمييز الطبقي والعنصري المقنّن.
عندما يصبح النضال “جريمة كراهية”
إنّ المفارقة الأكبر تكمن في أن الدولة لا تجرّم العبودية بقدر ما تجرّم من يتحدث عنها. فكل ناشط يسلّط الضوء على التمييز يصبح في عرف الخطاب الرسمي “عنصريًا”، أو “انفصاليًا”، أو “عميلاً لجهات أجنبية” ويتم توظيف القضاء كمطرقة لإخماد أصوات المطالبة بالعدالة، لا كميزان لإنصاف المظلومين.
مقاومة مدنية تُكتب بالحبر والخوف
رغم هذا، لا تزال منظمات المجتمع المدني – من بينها “شبكة الليبراليين”، و”IRA”، تناضل على الأرض وتوثّق الانتهاكات وترفع الصوت في المحافل الدولية. لكنّ هذه الجهود تدفع ثمنها من التضييق، والرقابة، ووصم الناشطين بالخيانة. ومع ذلك، لا تزال هذه القوى تشكّل الضمير الحي لوطنٍ لم يعتذر بعدُ لضحاياه.
نحو مواجهة الحقيقة:
إن مواجهة واقع الحاراطين لا يحتمل المزيد من التجاهل أو التجميل. فالمجتمع الذي لا يعترف بجرحه لا يُشفى، والدولة التي تخشى مواطنيها المختلفين لا تستحق أن تُسمّى دولة. من هنا، تدعو “شبكة الليبراليين في موريتانيا” إلى:
– تشكيل لجنة تحقيق مستقلة دولية في أحداث القمع الأخيرة.
– فرض رقابة أممية على محاكمات النشطاء.
– إعادة النظر في التوزيع العادل للثروة والفرص بين كافة المكوّنات.
– دمج التاريخ الحقيقي للعبودية في المناهج التعليمية، دون تزويق أو محو.
تشجيع الإعلام المستقل ليكون مرآة للواقع لا مرآة للسلطة.
صمتٌ لم يعد ممكناً
أن تصمت عن الظلم ليس حيادًا، بل تواطؤ. وأن تستمر دولة في إنكار معاناة شريحة واسعة من مواطنيها، هو نفيٌ لمبدأ المواطنة ذاته. قضية الهاراتين ليست شأنًا داخليًا ولا تاريخًا منسيًا، بل جرحًا مفتوحًا في ضمير وطن، لا يندمل إلا بالعدالة.